مكتبة الإمام الحكيم العامة
الاوضاع الاجتماعية في عصر الامام الكاظم

الاوضاع الاجتماعية في عصر الامام الكاظم


 

 
 
 
 
الأوضاع الاجتماعيّة في عصر إمامة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السّلام)
 
اصــدار
مؤسسة الهادي والعسكري للثقافة والإرشاد
وبــالـتـعـــاون
مـكـتـبة الإمــام الحـكيـم العـامـة
فرع الكميت
 
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله احد
الله الصمد
لم يلد ولم يولد
ولم يكن له كفوا احد
صدق الله العلي العظيم
 
 
 
 
 
 
الأحداث الاجتماعية والأوضاع الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة الحاكمةفي مجتمع من المجتمعات هي التي تلد سلسلة الحوادث التي تقع في ذلك المجتمع، ومن هناكان لابدّ لنا ـ إذا أردنا مناقشة الأوضاع الاجتماعيّة لعصر الإمام الكاظم عليهالسّلام ـ أن نعود إلى الأزمنة السابقة، فنناقش أواخر عصر الأمويّين ومقدّمات مجيءالدولة العبّاسيّة، فضلاً عن مناقشة عصر الخلفاء العبّاسيين الذين سبقوا عصر الإمامالكاظم عليه السّلام أو الذين عاصروه، من أجل أن نتعرّف على سلسلة العوامل التيشكّلت الاطار الثقافي والفكري والاجتماعي الذي ساد في عصر الإمام موسى بن جعفر عليهالسّلام. أي: أنّ علينا أن نتفحّص العلل والأسباب التي قادت إلى الأحداث الواقعةعلى نحو يحفظ لها وحدتها وعلائقها ببعضها.
بدايات التسلطالعباسي
امتاز الوضع الاجتماعي بسمة خاصّة خلال فترة حكم العبّاسيينالأوائل، فقد كان المجتمع يستهدف ـ بعد النهضة والثورة التي أطاحت بحكم بني أميّة ـتحقيق أهداف قادة الثورة التي انعكست في الشعارات التي نادوا بها، حيث شاهدنا دعاةبني العبّاس في أواخر الحكم الأمويّ وهم يدعون الناس في أرجاء البلاد الإسلاميّة ـوخاصّة في خراسان والعراق ـ إلى الثورة على مظالم بني أميّة ويبشّرونهم بإرساءقواعد حكمٍ يقوم على الحقّ والعدل. وشاهدنا دعاة بني العبّاس يرفعون راياتهمالسوداء وعليها آية قرآنيّة تتحدّث عن ثورة المظلوم على الظالم، والوعد الإلهيّبانتصار الحقّ على الباطل ، وكان أولئك الدعاة يدعون الناسإلى ( الرضا من آل محمّد ) وإلى تسليم الحقّ إلى أهله: أهل بيت النبيّ صلّى اللهعليه وآله الذين يُقيمون الحقّ والعدل.
وكانت بداية الدعوة العبّاسيّة نابعة منشرق البلاد الإسلاميّة ( أي من خراسان )، وقد انضمّ إليها جميع الفئات المظلومةالتي عانت من جور بني أميّة. أي أنّ الدعوة شملت الموالي ( وهم المسلمون من غيرالعرب ) الذين حُرِموا الحقوق الاجتماعيّة المتكافئة مع إخوانهم المسلمين العرب،وكان هؤلاء الموالي يميلون إلى أهل البيت عليهم السّلام، وشملت حتّى أهل الذمّةالذين لحقهم جور الأمويين، والذين كان الحجّاج يُمانع في دخولهم إلى الإسلام خوفاًمن هبوط الدخل العائد منهم إلى الحكّام الأمويّين.
ولهذا استطاع دعاة بنيالعبّاس استقطاب جميع فئات المجتمع وتوظيفها من أجل دحر العدوّ المشترك ( الحكمالأمويّ الجائر )، والقضاء على حكمهم الذي استمرّ ألف شهر، وقام على شعاراتٍجاهليّة وعصبيّات قبليّة. بيد أنّ المسلمين فُوجئوا بعد انتصار الثورة حين شاهدوا ـبدلاً من آل محمّد ـ بني العبّاس وهم يتصدّرون الحكم ويتنكّرون لأهل البيت عليهمالسّلام، مع أنّ هؤلاء العبّاسيين إنّما وصلوا إلى الحكم عن طريق الدعوة للرضا منآل محمد وإرجاع حقوقهم المغتصبة إليهم.
وقد بدأ الحاكم العبّاسي الأوّل أبوالعبّاس السفّاح خطبته الأولى في مسجد الكوفة ـ بعد الثناء على الله تعالى والصلاةعلى محمّد صلّى الله عليه وآله ـ بالوعد بالانتقام من قتلة آل أبي طالب. ثمّ إنّالسفّاح تتبّع الأمويّين تحت كلّ حجر ومدر فأوقع بهم مقتلة عظيمة اشتهر بعدهابالسفّاح.
وتلا حكم السفّاح ـ وكان قصيراً ـ أخوه أبو جعفر المنصور ( 137 ـ 158هـ ) فكان حكمه قائماً على القسوة والاستبداد، فاستعان في بداية أمره بأبي مسلمالخراساني لقمع أهل شمال خراسان الذين ثاروا لمناصرة العلويّين والأخذ بحقوق آلمحمّد صلّى الله عليه وآله، وكان شعار الثائرين الذين رأوا بأمّ أعينهم أنّ خلفاءبني العبّاس لا يقلّون في سفك الدماء والجور عن أسلافهم الأمويّين )) ما على هذااتّبعنا آل محمّد ( يقصدون بني العبّاس ) على أن نسفك الدماء ونعمل بغير الحقّ((
وكان قائد الثورة هو شريك بن شيخالمهري ( أو المهدي)، واتّبعه خلق عظيم من أهل شمال خراسان، وخاصّة من منطقة « بخارا »، لكن هذه الثورة قُمعت من قبِل أبي مسلم وقائده على الجيش زياد بن صالح،وأُحرقت مدينة بخارا معقل الثائرين، وأُعدم عدد كبير من أهلها. ثمّ قُتل أبو سَلَمةالخَلاّل، القائد السياسي للانتفاضة في الكوفة، بتهمة الانحياز إلى العلويّين،فاغتيل على جسر الفرات من قِبل أعوان أبي مسلم بينما كان يعود من قصر الحاكم بدسيسةمن المنصور والسفّاح، ثمّ قطف أبو مسلم ثمار خدماته للعبّاسيين، فقُتل بتدبير دبرّهله المنصور العبّاسي.
واستمر المنصور العبّاسي في إرساء قواعد حكمه بالناروالحديد، فأمر باعتقال جماعة من أهل البيت ( وهم بنو الحَسَن ) عند عودته من الحجّ،ثمّ أمر بقتلهم، وأمر بتشديد الرقابة على الإمامالصادق عليه السّلام، ثمّ اغتاله بالسمّ في نهاية المطاف.
لكنّ هذه الإجراءاتالقمعيّة لم تفشل في قمع الثورات فحسب، بل زادت في اشتعال الثورات ضدّ العبّاسيينفي أطراف البلاد الإسلاميّة ومنها:الكوفة والبصرة، والمدينة، وهي ثورات قادهاعلويّون من أهل البيت عليهم السّلام أو من أتباع أهل البيت عليهم السّلام. وكانهؤلاء الثائرون يدعون الناس لمواجهة جور العبّاسيين واستئثارهم بالأموال هموحاشيتهم، وذلك في عصر المنصور العبّاسي وتزامنت إمامة الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه السّلام مع هذه الشرائط والأحوال، ودامت مدة عشر سنوات ( 14 ـ 158هـ) 
وعُرف المنصور العبّاسي ببُخله الشديد وسعيه لجمع الأموال واكتنازها بكلّوسيلة، فخلّف للمهدي العبّاسي الذي أعقبه في الحكم ( 158 ـ 169 هـ ) ثروة طائلة. ذكر ابن الأثير في تاريخه أنّ أبا جعفر المنصور خلّف لابنه المهدي 000/000/14 دينارو 000/000/600 درهم، قيل أنّها تكفيه لإدارة الدولة عشر سنين .
وكان المهدي ابن المنصور علىدرجة من الدهاء، واشتهر بحُسن المعاشرة، فأوعز بمجرّد وصوله إلى السلطة ـ عالماًبأوضاع المجتمع وبسخط الناس على سياسة أبيه ـ بإطلاق سراح السجناء، وإعادة الأموالالتي صُودرت من أصحابها في عهد أبيه، وقد وجد الطالبيّون في عهد المهدي فَرَجاًنسبيّاً ممّا كانوا يعانونه زمن أسلافه.
ولم يكتفِ المهدي العبّاسي ـ في نشرهللاستقرار في المجتمع ـ بإطلاق سراح السجناء، بل كان يصلهم ويخلع عليهم الخِلَع بمايناسب حالهم
 ودام حكم المهدي العبّاسي عشرسنوات، وأعقبه ابنه الهادي، فكان حكمه قصيراً، حيث انتهى بعد سنة واحدة بسببالدسائس التي حيكت ضدّه من قِبل البلاط، وامتاز حكم الهادي بملاحقة الطالبيين وقطعأرزاقهم
وأعقب الهادي أخوه هارونالرشيد ( 170 ـ 193 هـ )، فبدأ خلافته الخياليّة المشهورة بالشكليّات والتجمّلاتالزائدة بالاستعانة بعائلة آل بَرْمَك، أي بيحيى البرمكي وولدَيه الفضل وجعفر فيتوطيد دعائم حكمه، ثمّ قلب لآل برمك ظهرَ المِجنّ وتنكّر لهم وقتلهم شرّ قتلة،فواجهت حكومته ـ بعد القضاء على البرامكة ـ العديد من المشاكل والصعوبات.
وقدعاصر الإمام الكاظم عليه السّلام في عهد إمامته التي استمرت خمساً وثلاثين سنةأربعة من الحكّام العبّاسيين، لكنّ أقسى فترة عاصرها هي الفترة الواقعة بين سنوات 170 و 183 هـ، أي الفترة المعاصرة لحكم هارون العباسي .
ولمّا كنّا ننوي التعرّفعلى الأوضاع الاجتماعيّة في عصر الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام ومعرفة الإجراءاتالتي واجه الإمام عليه السّلام بها تلك الأوضاع، فمن الضروري أن نتعرّف أولاّ علىمُجمل مشكلات الوضع الاجتماعي في عصر الحكّام العبّاسيين الأوائل، حيث يمكن تلخيصتلك المشكلات بما يلي:
1 ـ النزاعات والتعصّباتالقبليّة
عَرَفت الجزيرة العربيّة العصبيّة القبليّة منذ قديم الزمان،وقد انجرّت هذه الاختلافات والتعصّبات في بعض الأحيان إلى حروب طويلة مدمّرة منشؤهاالعصبيّة الجاهليّة للقبيلة والعشيرة والافتخار بالأمجاد السالفة للقوم والقبيلة،حتّى أنّهم كانوا يتفاخرون ويتكاثرون بعدد موتاهم في القبور .
وقدبدأ النبيّ صلّى الله عليه وآله ـمُنذ أن بُعث ـ حرباً لا هوادة فيها ضدّ العصبيّةالجاهليّة وسواها من الانحرافات الفكريّة المنحطّة، وسعى جاهداً في استئصال جذورهامن المجتمع، وفي إرساء قواعد القيم الإسلاميّة القائمة على أساس التفاضل بالتقوىوالعمل الصالح والقيم الإلهيّة.
وعلى الرغم من مخالفة قريش وبعض الأحزابالمؤيّدة لها، حقّق رسول الله صلّى الله عليه وآله نجاحاً كبيراً في مسعاه، لكنّالعصبيّة الجاهليّة نجمت بقرنها من جديد بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله،وتفاقمت حتّى آتت ثمارها المُرّة في حكم الثالث ( عثمان )، وتمثّلت مظاهرها بأجلىصورها في التسلّط الأمويّ على مقدّرات المجتمع الإسلاميّ.
وقد تابع أميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام نهجَ رسول الله صلّى الله عليه وآله فيمحاربة العصبيّة الجاهليّة زمن خلافته، وخاصّة في منطقة الكوفة عاصمة خلافته، ثمّاستُشهد في نهاية المطاف على أيدي الخوارج الذين حرّكتهم الأفكار والعصبيّاتالقبليّة التي أشعل أوارها رؤساء القبائل من أمثال الأشعث بن قيس الكِندي.
وأسسالأمويّون دولتهم ـ حسب تعبير ابن خلدون ـ على أساسٍ من العصبيّات القبليّة، ثمّانهارت دولتهم بسبب من هذه الاختلافات والعصبيّات القبليّة التي أفاد منها أبو مسلمالقائد الخراساني. وينقل المؤرّخون عبارة لأبي مسلم تعبّر عن مدى سروره بهذهالاختلافات بين طائفتين كبيرتين من الأمويّين في خراسان، حيث قال: )اللهمّ أفرِغعليهما الصبر، وانزعْ منهما النص ( .
وقد استغلّ العبّاسيّون ـلتحقيق أهدافهم في السلطة ـ هذه العصبيّة الجاهليّة الذميمة، فاشتعلت في زمنالحكّام الأوائل منهم الخلافات والنزاعات القبليّة، وامتاز المجتمع في عصر إمامةالإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام بهذه العصبيّات والنزاعات، حيث نقلالمؤرّخون أنّ بني تغلب نقموا على عامل الصدقات بسبب العصبيّة القبليّة، فقتلوه معجماعة من قبيلته .
ونقلوا أنّ الحرب دارت في الشامبين المضريّة واليمانيّة، فسقط لهم أعداد كبيرة من الطرفَين قتلى ؛وظهرت العصبيّة بحمص ـ حسب تعبير اليعقوبيّ ـ وحمص هي المركز الثاني لبلادالشام.
وذكر ابن خلدون في هذاالشأن أنّ الفتنة نشبت في دمشق بين المُضَريّة واليَمانيّة سنة 175 هـ، فقد قتلاليمانيّة رجلاً من بني القَين، فاجتمع بنو القين لأخذ دِيَة الرجل... ثمّ هجمواعلى المضريّة على حين غرّة فقتلوا منهم 300 رجل ـ وقيل 600 رجل ـ ثمّ أنّ المضريّةاستنجدوا بقبائل قُضاعة وسُلَيم، فلم ينجدهم إلاّ قبيلة قيس، فصاحبهم إلىالبَلْقَاء وقتلوا من اليمنيّة 800 رجل.
وخرج رجل من بني مُرّة يُقال له عامر بن عمارة، ويكنّى أبا الهيذام، بحوران من أرضدمشق، فقتل اليمانيّة وذلك في سنة 176 هـ، فوجّه إليه الرشيد ( العبّاسي ) السِّنديوجماعة من القوّاد، فقُتل أبو الهيذام وفُرّق جمعه .
وذكر ابن خلدون في كتابه)) العبر (( فتنة عطّاف بن سفيان الأزدي من قبائل عرب الجنوب، فقد ثار عطاف في الموصلسنة 177 هـ، فأجبر هارون على التحرّك لمساعدة عامله على الموصل: عبدالملك بن صالح ـأو محمد بن العبّاس الهاشميّ ـ فُدمّر برج الموصل وخربّها وأخمد فتنة الأزدي، فسارعطاف إلى أرمينية ثمّ إلى الرقّة فأقام فيها.
واشتعلت الفتنة في مصر،وظهرت العصبيّات القبليّة، وتمرّدت قبائل قيس وقُضاعة، وحاربت عامل هارون اسحاق بنسليمان، فاضطرّ هارون إلى إرسال قائده هَرثمة بن أعيَن لإخماد الفتنة .
وعمّت النزاعات والعصبيّاتالقبليّة أرجاء خراسان في عصر هارون، ونشبت الصراعات بين القبائل في مُدن « نَسا »، « طُوس »، « أبيورَدْ »، « نَيشابور ».. وسائر مدن خراسان، وكان أشدّ تلك الصراعاتفي منطقة السِّند ومَكران، حيث أعقبت حكومة عليّ بن محمد بن عدي الثعلبي عصبيّاتشديدة في السند انجرّت إلى تمرّد أهالي تلك المناطق، وإلى توسعة العصبيّة بين قبائلاليمانيّة والنزاريّة.
وتسبّبت حكومة داود بن يزيد بن المهلبي وأخيه المغيرةبالسِّند في تمرّد النزاريّة ـ عرب الشمال ـ فعزموا على اخراج اليمانيّة من بلادالسند. وتحامل المغيرة على النزاريّة فقاتلوه وهزموه. وسار داود بن يزيد ـ لمّابلغه الخبر ـ حتّى قدم البلد، فجرّد فيهم السيف، فقتل من النزاريّة خلقاً عظيماً،وسار إلى المنصورة فأقام يقاتلهم عشرين يوماً، ولم تَزَل الحرب بينهم عدّة شهور،ففتحها ثمّ سار إلى سائر مدن السند، فلم يزل يفتح ويخرب.. إلى أن استقامت لهالبلاد .
ولم تخلُ سائر البلادالإسلاميّة الخاضعة لحكومة هارون الرشيد من العصبيّة القبليّة، وخاصّة منطقة شمالإفريقية، فقد تسبّبت تلك الاختلافات في نشوب صراعات كثيرة وإلى خراب شديد في تلكالبلاد. وبتعبير آخر لم تنحصر الصراعات في ذلك العصر في المناطق النائية البعيدة فيشرق البلاد الإسلاميّة وغربها فحسب، بل تعدّت ذلك إلى المناطق المحاذية للعاصمةبغداد، بل في بغداد نفسها، ممّا تسبّب في أيجاد مشكلات كثيرة في المجتمع.
2 ـ حركة الترجمة وتيّار التغريب
ظلّت الدعوة إلى الإسلام فيعهد النبيّ صلّى الله عليه وآله منحصرة في العرب دون سواهم من الشعوب الأخرى، أمّافي عصر الحكّام مِن بعده فقد تخطّى الإسلام حدود شبه الجزيرة العربيّة وشمل مساحاتكبيرة، فقد سيطر المسلمون على القسم الأعظم من أراضي إيران والروم الشرقيّة، ثمّعبروا حدود إيران إلى الهند. وقد اعتنق الإسلام معظم سكّان البلاد الخاضعة للحكمالإسلاميّ، وعاش الباقون تحت ظلّ الدين الإسلاميّ الحنيف آمنين ضمن المجتمعالإسلامي الكبير. وحسب تعبير ابن خلدون فإنّ الحضارة الإسلاميّة كانت مَدينةً فيكثير من معالمها للشعوب المسلمة من غير العرب، بل ساهم أهل الذمة الذين عاشوا ضمنأطار المجتمع الإسلاميّ دون أن يعتنقوا الإسلام في رسم ملامح الحضارة الإسلاميّةوتقدّمها.
ومن الجليّ أنّ علوم وفنون الشعوب التي دخلت في الإسلام قد تسرّبت إلىالمجتمع الإسلامي، وخاصّة في القرن الثاني الهجريّ، وتزامن بداية حركة الترجمة معانتقال مركز الخلافة إلى بغداد، حيث جرت ترجمة الآثار العلميّة والأدبيّة والدينيّةللأمم الأخرى في البلاد الخاضعة لسيطرة المسلمين، فتُرجمت تلك الآثار من اللغتينالفارسيّة والهنديّة، ثمّ بدأت حركة واسعة لترجمة الآثار ـ عبر بلاد الشام ـ مناللغات السريانيّة واليونانيّة والروميّة إلى العربيّة، ويعتقد المحقّقون أنّ حركةالترجمة بلغت غايتها في عصر هارون والمأمون العبّاسيَّين.
وكان لحركة الترجمةهذه آثار ايجابيّة وسلبيّة، فمن آثارها الإيجابيّة أنّ العلوم والفنون كانت تُنقلإلى الحضارة الإسلاميّة، وأنتج ذلك تعرّف المسلمين على العلوم البشريّة للأممالأخرى التي كان لها ـ حسب تعبير ابن خلدون ـ باع في العلوم، كالحِرَفوالصنائع .
وقد أفاد المسلمون من هذهالعلوم، فأعادوا صياغتها في قالب مدنيّتهم، وساهموا في تنميتها وتقدّمها وانتقالهاإلى الأجيال اللاحقة، فكان لهم حظّ كبير في رفد المدنيّة والثقافة العالميّة فيالقرون الوسطى التي قبعت فيها أوروبا في ظلمات دامسة، حتّى لُقّبت تلك العصور ـبالنسبة إلى أوروبا ـ بالعصور المُظلمة.
بيد أنّ انتقال هذه العلوم والفنون لميَخلُ من جوانب سلبيّة تركت بصماتها السيّئة على المجتمع الإسلاميّ، لأنّ هذهالحركة لم تجرّ المجتمع الإسلامي إلى المباحث النظريّة والكلاميّة بدلاً منالاهتمام بالجوانب العمليّة والاجتماعية للإسلام، ومحاربة النُظُم الفاسدة الجائرة: الأمويّة والعبّاسيّة، وأجبرت المسلمين ـ من أجل الدفاع عن عقائدهم ـ على التعرّفعلى عقائد الأمم الأخرى وأساليب المناظرة والمباحث النظريّة، بل تسبّبت ـ فوق ذلككلّه ـ في إلقاء الشبهات في أفكار المجتمع الإسلاميّ، مما أثّر سلباً في استحكامإيمان المسلمين وعقائدهم ممّا يجعل الاندفاع الحكومي نحو الترجمة لوناً من التغريبالثقافي، فدفع ذلك العلماء الواعين إلى التفكير بطُرق مواجهة هذه الانحرافاتالفكريّة والثقافيّة، أمّا الحكّام فقد استغلّوا النزاعات والمشاكل الفكريّة أسوأاستغلال.
وكان الأئمّة المعصومون عليهم السّلام يتحمّلون ـ باعتبارهم حملة لواءالإسلام الأصيل ـ العِبءَ الأكبر في مواجهة هذه الانحرافات الفكريّة الدخيلة علىالمجتمع الإسلاميّ، فكان يعملون أوّلاً ـ على رفع مستوى وعي المجتمع الإسلاميّ،بحيث لا ينسى الهدف الأساس وهو مواجهة الحكم المنحطّ الأمويّ والعبّاسي، وإعادةحاكميّة الإسلام وسُلطته، وكانوا يُعلِمون الناس ـ ثانياً ـ بأن الإسلام دين فطريّمنسجم مع العقل، وأنّ في مقدرته الدفاع عن حريم مقدّساته أمام جميعالانحرافاتوالعقائد الباطلة والأفكار الإلحاديّة المستوردة من الأمم المختلفة.
وتحمّلالإمام موسى الكاظم عليه السّلام مسؤوليّة ثقيلة في هذا العصر الذي دُعي بعصر ذروةالترجمة، فعمل ـ ضمن الإشراف الفكريّ على الجهاد الدامي للثائرين على الحكمالعبّاسي الجائر ـ على التأكيد على مبدأ الجهاد السرّي والتقيّة في المواجهة غيرالعلنيّة للانحرافات الفكريّة والإلحاديّة التي تسرّبت إلى المجتمع الإسلاميّ جرّاءترجمة آثار من المذاهب: المانويّة، الزرادشتيّة، اليهوديّة، المسيحيّة والصائبة،والعمل على نشر وتبليغ الإسلام الأصيل في صفوف المجتمع المسلم.
أمّا الحكّامالعبّاسيّون، فقد استغلّوا ـ من جهة ـ الاختلافات التي تنشب جرّاء تلك الانحرافاتالفكريّة، وكانوا يسعون في تسليط الأضواء عليها من أجل جرّ الناس إلى الاهتمامبمسائل ثانويّة بعيداً عن أهل البيت عليهم السّلام حملة الإسلام الأصيل، وفي اظهارالحكم ـ على الرغم من الفساد والجور السائدين ـ في مظهر المدافع عن الدين وحاميه،فكان هؤلاء الحكّام يعمدون أحياناً إلى مواجهة الموجات الإلحاديّة ولكن بأساليب غيرنافعة وبطرق غير منطقيّة، أي أنّهم كانوا يتوسّلون بإعدام الذين يروّجون للإلحاد،ولا يتردّدون في توجيه أصابع الاتّهام إلى مخالفيهم بالزندقة والإلحاد، فيقتلونهمتحت ذريعة محاربة الإلحاد. ولم يَنجُ من هذا الأمر عليّ بن يقطين، وهو من أصحابالإمام الصادق والإمام الكاظم عليهما السّلام ، حيثيقول ابن النديم:
 
فلم يزل يقطين في خدمة أبي العبّاس وأبي جعفر المنصور، ومعذلك يرى رأي آل أبي طالب ويقول بإمامتهم، وكذلك ولده، وكان يحمل الأموال إلى جعفربن محمّد بن علي والألطاف، ونُميَ خبره إلى المنصور والمهدي، فصرف اللهُ عنهكيدهما، وتوفّي عليّ بن يقطين بمدينة السّلام سنة 182 هـ وسنّه 57 سنة... ولعليّ بنيقطين كتاب ما سُئل عنه الصادق من أمور الملاحم ، وكتاب « مناظرته للشاك بحضرةجعفر       .
وقد فاق المهدي العبّاسيوالهادي العبّاسي سواهما من حكّام بني العبّاس في أمر محاربة الزندقة، فأعدموا آلافالأشخاص بهذه التهمة. يقول اليعقوبي: ( وكان المهدي قد ألحّ في طلب الزنادقةوقتلهم، حتّى قتل خلقاً كثيراً )وعيّن المهديّ العبّاسي في عهدهرجلاً سمّاه « صاحب الزندقة » وأمره أن يتعقّب الزنادقة، وقد عمل المهدي بوصيّةأبيه في التشديد على الزنادقة، لكنّه قضى في هذا السبيل على كثير من أقاربه هموأولادهم بناءً على وشاية أو مؤامرة من رجال البلاط. وكان المهدي قد أمر في عهدخلافته القصير بإعداد ألف خشبة ليعدم عليها المتّهمين بالزندقة.
ثمّ جاء عصرهارون العباسي، فلم يسلم من الاتّهام بالزندقة حتّى أمثال آل برمك.
ولعلّ أهمالعوامل التي ساهمت في ترويج الاتّهام بالزندقة قد بدأ في عصر الأمويّين، فقد حاربالشعوبيّون الأمويين بسبب عروبة الأمويّين، فكان الأمويون يردّون عليهم باتّهامهمبالزندقة، ثمّ تسرّب هذا الاتّهام إلى عصر الحكم العبّاسي، فاستخدمه رجال البلاط فيتصفية بعضهم، وفي تصفية الفرس بتحريك من الحاكم أو من أفراد البلاط العرب .
مجمل الثورات في عصر الحكّامالعبّاسيين الأوائل
ثورات العلويّين
أشرنافي البدء إلى تشدّد المنصور مع أتباع أهل البيت، ومع العلويّين على وجهٍ خاصّ، حيثبدأ هذا الضغط والتشدّد من عهد الإمام الصادق عليه السّلام واستمر إلى عهد إمامةالإمام الكاظم عليه السّلام.
وقد سجّل التاريخ ثورات بني الحسن بعد مقتل عبد اللهبن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وأولاده، وكانت أولى الثورات: ثورة محمّد بن عبد الله بن الحسن، وعُرف بالنفس الزكيّة، وقد ثار محمد في المدينة معطائفة من العلويّين وجماعة من أتباعه، فقُمعت ثورته بقسوة شديدة. ثمّ جَرَت ملاحقةُإخوة محمّد الواحد بعد الآخر، فكان هولاء يثورون على الحكم العبّاسي.
ومن جملةهؤلاء الثائرين إبراهيم المعروف بشهيد « باخَمْرى » ـ وهي منطقة بين الكوفة والبصرةـ حيث التقى إبراهيم بجيش المنصور فقُتل وقُمعت ثورته.
وهرب أخوه الآخر إدريسإلى مصر وشمال إفريقية، ومنها إلى مراكش، فصار له نفوذ بين قبائل تلك المنطقة بسببدعوته لهم ونظراً لكونه من أهل البيت عليهم السّلام. وقد حكم إدريس في تلك المناطقفترة من الزمن، ثمّ استُشهد بسمّ دسّه إليه هارون الرشيد، لكنّ أولاده ظلوا يحكموننواحي شمال إفريقية ما يقرب من قرنَين كاملين، وتُعرف دولتهم الشيعيّة التي استمرّتإلى سنة 169 هـ بدولة ( الأدارسة)
وهرب الأخ الثالث يحيى بن عبد لله بعد قتلمحمّد النفس الزكيّة متخفّياً من بلد إلى بلد، ثمّ طرق سمع هارون أنّ يحيى في بلادالدَّيْلَم، فعيّن الفضلَ بن يحيى بن خالد البرمكي حاكماً على خراسان وشمال إيرانوأمره بقتله، فجهّز الفضل جيشاً قوامه خمسون ألف رجل وتوجّه إلى جرجان وطبرستان. ولمّا رأى يحيى عجزه عن مقابلة جيش الفضل ذاكره وطلب منه أن يأخذ له أماناً منهارون، فآمنه هارون. ثمّ إنّ يحيى بن عبدالله قَدِم مع الفضل إلى بغداد، فأكرمههارون، ثمّ ألقاه في السجن بذريعةٍ ما، وأمر أن يُقلّل الزاد الذي يُقدَّم له فيالسجن إلى النصف ليموت جوعاً، وقيل إنّه أمر بخنقه في السجن.
وقد نقل أبو الفرجالإصفهاني أنّ الفضل بن يحيى لمّا جاء إلى بلاد الدَّيلَم، قال يحيى بن عبد الله: « اللهمّ اشكُر لي إخافتي قلوبَ الظالمين. اللهمّ إن تقضِ لنا النصرَ عليهم فإنّمانُريد إعزازَ دينك، وإن تقضِ لهم النصرَ فبما تختارُ لأوليائك وأبناء أوليائك منكريم المآب وسَنيّ الثواب.
ومن ولد الحسن: الحسين بنعليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وكان ـ حسب تعبير اليعقوبي ـ حسنالسيرة، كاملاً فاضلاً، فلم يمكنه تحمّل جور الهادي العبّاسي، فثار عليه سنة 169 هـبعد مراسم الحجّ، لكنّ ثورته قُمعت في منطقة فخ قرب مكّة بوحشيّة وشدّة تشبهالوحشيّة المستعملة في واقعة كربلاء.
ولسنا في صدد بحث ثورات العلويّين في هذهالفترة على نحو كامل، حيث يمكن لمن أراد مراجعة المصادر المختلفة في هذا الشأن،وخاصّة كتاب
( مقاتل الطالبيين ) لأبي الفرج الاصفهاني، لكنّنا في صدد مناقشة موضوعثورات العلويين بوصفه واحداً من المسائل الموجودة في المجتمع الإسلاميّ آنذاك،وواحداً من المشكلات التي واجهها الحكم العبّاسي، من أجل أن نتعرّف على نحوٍ أفضلعلى الشرائط الاجتماعيّة الحاكمة في تلك الفترة.
لقد كان مجرّد الاتّهام بمناصرةالعلويين وأهل البيت كافياً في تلك الفترة لتعريض المتّهَم للحبس والتعذيب والقتل،وبتعبير آخر فقد كان الاتّهام بالتشيّع يعني القتل والموت.
وسبق أن نوّهنا بأنّالاتّهام بالزندقة كان يُستخدم أحياناً لقمع أنصار أهل البيت، وذكرنا أنّ المهديالعبّاسي بدأ حكمه بتخفيف الوطء عن أهل البيت والطالبيين إلى حدٍّ ما، لكنّه لميلبث إلاّ يسيراً حتّى شدّد النكير عليهم، فصار الاتّهام بالزندقة كافياً لتعريضحتّى المقرّبين للحاكم للحبس والقتل. يقول المسعودي في تاريخه: « ثمّ اختصّالمهديُّ يعقوبَ بن داود السلمي، وخرج كتابه إلى الدواوين « انّ أمير المؤمنين قدآخاه »، وكان ( يعقوب ) يصل إليه في كلّ وقت دون الناس كلّهم، ثمّ اتّهمه بشيءٍ منالطالبيّين فهمّ بقتله، ثمّ حبسه فبقي في حبسه إلى أيّام الرشيد، فأطلقه الرشيد .
ونقل الكثير من المؤرّخينقصّة البرامكة: يحيى ووَلدَيه الفضل وجعفر، وتحدّثوا عن النفوذ الواسع الذي اكتسبوهفي بلاط هارون الرشيد، وذكروا أنّ اقتدار هارون وشوكته ترجع إلى جهودهم. ثمّ ذكرهؤلاء المؤرخون أنّ أحد أسباب سقوط البرامكة اتّهامهم بمناصرة العلويّين، حيثاتُّهم الفضل ـ بصورة خاصّة ـ بهذا الاتّهام. ومن المسلّم أنّ هذه التهمة حاكهاخصوم البرامكة مثل الفضل بن الربيع، وساهمت فيها النزاعات الدائرة فيالبلاد.
وقد نقل البيهقي في تاريخه قصّة ثورة يحيى العلوي فقال:
 
قال الفضل: أي بُنيّ! لقد منحك الخليفة في هذه الدنيا مقاماً عظيماً، لكنّ قتل رجل من أهلالبيت يجرّك إلى عقاب أليم في الدار الآخرة. ولا يجدر بنا إلاّ الطاعة، فلديناأعداء كثيرون، ونحن متّهمون بالميل للعلويّين، من أجل أن لا نسقط من عين الخليفة .
وإذا كان هارون الرشيديتعامل بهذه القسوة مع المتّهمين بالتعاطف مع العَلَويين، فكيف سيتعامل ـ إذن ـ معإمام العَلَويين وكبيرهم: الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام ؟!
يقول المؤرّخ ابنالطقطقي: « وأمَرَ الرشيدُ بالقبض على موسى بن جعفر عليه السّلام، فحُمل إلى بغدادفي هَودَج وحُبس في بيت السِّندي بن شاهَك، فلم ينقضِ على ذلك إلاّ يسير حتّى قُتلموسى بن جعفر عليه السّلام، وأعلن الرشيد أنه مات حتفَ أنفه .
سائرالثورات
يمكن تقسيم الثورات التي حدثت في هذه الفترة إلى طائفتَين: ثوراتالخوارج، وخروج المُحمِّرة من أتباع أبي مسلم الخراساني والباطنيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ثوراتالخوارج
اشتهر الخوارج بثوراتهم على الحكم الأمويّ، وقد استمرت ثوراتهمعلى العبّاسيين في عصر الحكم العبّاسي أيضاً، فسبّبوا له مشكلات عديدة. ويبدو أنّأهم عامل أسهم في تشديد ثورات الخوراج هو الجور المتفشّي في المجتمع، ذلك الجورالذي يمكنه أن يجعل المظلومين يلتفّون حول راية كلّ ثائر على النظام الحاكمالجائر.
وقد شاهدنا في هذه الفترة أنّ أهمّ ثورات الخوارج حدث في خراسان، لأنّحاكم خراسان عليّ بن عيسى بن ماهان عُرف بقسوته وفظاظته .
ولم تتسبّب قسوة ابن ماهانوجوره في اشتعال ثورات الخوارج فحسب، بل تسبّبت في قيام ثورات أخرى أيضاً في منطقةخراسان، أجبرت هارون الرشيد على التوجّه بنفسه إلى خراسان لقمعها، حيث مات في سفرههذا سنة 193 هـ.
أمّا الخوارج فقد ثاروا في خراسان وسيستان سنة 177 هـ بقيادةرجل منهم يُدعى الحُصين الخارجي ـ وكان من الموالي ـ فتمكّن من السيطرة على نواحيبادغيس وبوشنج وهرات وسائر بلاد الشرق الإسلامي، ثمّ قُتل في النهاية على يد عاملخراسان .
وثار في سنة 178 هـ حمزةآذرك على عليّ بن عيسى وعمّاله في خراسان وهرات وبوشنج وبادعنيس، ثمّ انهزم جيشهسنة 179 هـ أمام القادة الذين أرسلهم هارون ـ ومن بينهم عليّ بن عيسى ـ وقُمعتثورته .
يقول مؤلّف « تاريخ سيستان »: « وفي سنة 189 هـ كتب عليّ بن عيسى إلى الخليفة هارون وأعلمه أن رجلاً منالخوارج ثار في سيستان وقتل عاملها، ثمّ هاجم بجيشه خراسان وكرمان وقتل عاملَيهارون عليهما، وأنّ جميع نواحي خراسان وسيستان وكرمان خرجت من أيديهم          
ويُظهر هذا القول أنّ هذهالثورات كان تشكّل تهديداً جديّاً للحكم القائم، وأنّ عامّة الناس كانوا يتعاطفونمعها.
ثوراتالمُحمِّرة، الباطنيّة، وسواها
يعدّ شمال إيران من مراكز الثورات؛ نظراًلموقعه الطبيعيّ المناسب وصعوبة السير في طُرقه الوعرة، إذْ لم تكن السيطرة على تلكالمناطق أمراً ميسوراً لعمّال الحكّام وقادتهم.
وقد ثار المحمّرة في جُرجان سنة 162 هـ ، وحسب تعبير الخواجة نظامالمُلْك فقد ثار الباطنيّة في جرجان زمن المهدي العبّاسي، وكانوا يلقّبون بأصحابالراية الحمراء، فاتّحدوا مع الخُرَّميّة وقالوا إنّ أبا مسلم الخراساني حيّ يُرزق،وطالبوا باسترجاع المُلك، وأمّروا عليهم « أبا العزّ » ابن أبي مسلم الخراساني،حتّى وصلوا إلى الريّ ....       
وثار الخُرَّميّة والباطنيّةفي اصفهان والريّ وهمدان في عصر هارون أيضاً، ثمّ تغلّب عليهم بعد مدّة أبو دُلَففي جيش عظيم من اصفهان، وابن المبارك في جيش عظيم من خراسان، فأوقعا فيهم مقتلةعظيمة، وساقوا ذراريهم سبايا إلى بغداد فباعوهم بَيعَ العبيد .
الانتفاضات
حصلت في عهد هارون انتفاضات أخرى، فقد ذكر الدِّينَوَري أنّأهل خراسان خرجوا في سنة 180 هـ بعد أن استدعى هارون عامله فيها: الفضل بن يحيى،وانجرّ هذا الخروج إلى مقتل حاكم خراسان، وخرح في هذه السنة أيضاً أهل الموصلوثاروا على هارون .
وذكر الدينوري أيضاً أن أهلخراسان خرجوا على علي بن عيسى عامل الخليفة ـ وكان ظالماً جائراً ـ فالتفّوا حولرافع بن نصر ( أو رافع بن الليث ) سنة 190 هـ، فتبعه منهم 30 ألف رجل، وعلا أمرهمحتّى أُجبر هارون على السفر بنفسه إلى خراسان والقدوم إلى مركز الثورة « سَمرقَند »، وتوفّي في طوس في سفره ذلك .
ويشهد على هذا القول ماأورده الطبري في تاريخه في هذا الصدد، قال: « وفيها ( في سنة 191 هـ ) غلظ أمر رافعبن ليث بسمرقند، وفيها كتب أهل « نَسَف » إلى رافع يعطونه الطاعة ويسألونه أن يوجّهإليهم مَن يُعينهم على قتل عيسى بن علي، فوجّه صاحب الشاش في أتراكه قائداً منقوّاده، فأتوا عيسى بن عليّ فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة .
وقد ذكر المؤرّخون أنّالسبب الأساس في هذه الانتفاضات هو ظلم هارون وجور ولاته وعمّاله في مختلف البلادالإسلاميّة. وأشار البيهقي إلى أنّ سبب هذه الثورات يعود إلى الإفراط في أخذالخَراج والجِزية من قِبل عمّال هارون، وإرسالهم إلى بغداد بالهدايا الثمينة التيلا تُعدّ، من أجل التقرّب إلى البلاط العبّاسيّ    .
 
 
 
 
عصر الانغماس في اللذاتوالملاهي
بعد عصر الحاكمَين العبّاسيين السفّاح والمنصور، حانَ عصرُتثبيت الحكم وقطف ثماره، وهو عصر بلغ أوجَه في زمن هارون الرشيد.
وقد امتازتطريقة العيش ـ وخاصّة لدى الحكّام ـ بكونها خليطاً من حياة سَكَنة الحجاز وبلادفارس الساسانيّة، فقد جسّدت بعض وجوه الحياة في ذلك العصر عادات البادية، بينماامتازت الوجوه الأخرى ـ إثر نفوذ الفرس في البلاط ـ بالرفاهيّة والترف الذي اشتهربه الملوك الساسانيّون.
وامتاز بلاط حكّام بني العبّاس بكثرة الوزراء والمعلّمينالفرس، وكان هؤلاء يرتدون ـ منذ عصر المنصور ـ الملابس الفارسية ويضعون على رؤوسهمالقلنسوة السوداء المخروطيّة التي كان الساسانيّون يرتدونها من قبل، كما كان كباررجال البلاط يُحاكون الساسانيّين في ارتدائهم ملابس مزركشة بالذهب، حتّى أنّالمتوكّل العبّاسي ـ كما يبدو من نقود مسكوكة في عهده ـ كان يرتدي أحياناً الملابسالفارسية .
وكان عصر العبّاسيين عصرالتحلّل والسعي وراء اللذّات ورواج شرب الخمور وارتياد النوادي، وكان معاقرة الخمروالمجون واللهو من السمات البارزة للمدنيّة العبّاسية الجديدة.
وقد أُغرق الناسفي ذلك العصر في تناول الخمور، وفي الجدال في حِليّة الخمر وحُرمته، لكنّ بعضالشعراء كان قد أحلّ لنفسه تناول الشراب من غير أن ينهمك في الجدال الدائر، وكانهؤلاء الشعراء يجهرون بولعهم بالشراب.
إضافة إلى الشراب فقد شاع اتّخاذ الجواري،والغناء، وكان صراخ الثمالى يمتزج بغناء المغنّين ويتصاعد من كلّ قصر وفِناء .
ويمكننا أن نعتبر هارونالرشيد وحاشيته نموذجاً لأخلاق الناس في عصره، فقد كان هارون على معرفة تامّةبالشرائط الحاكمة في مجتمعه وعصره، فكان غارقاً في اللذات من أنواع شتّى، لكنّه كانفي الوقت نفسه يبكي بكاءً حارّاً حين يسمع أشعار أبي العتاهية في الوعظ، من أجل ذرّالرماد في العيون وايهام العامّة .
بل نقل البعض أنّ هارون كانيصلّي مائة ركعة في اليوم، وأنّه سار على قدميه إلى مكّة للحجّ في احدى السنوات،وأنّه كان إذا حجّ اصطحب معه مائة نفر من الفقهاء، وأنّه لم يتمكّن من الحجّ سنةً،فأرسل ثلاثين فقيهاً للحجّ على نفقته ، لكنّ هارون لمّا عاد من الحجّودخل المدينة ورأى التفاف الناس حول الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام، أمرباعتقاله فسجنه مدّة طويلة، ثمّ أصدر أمره بسمّه .
وكان هارون يولي اهتماماًخاصّاً ليحيى بن خالد البرمكي وولديه الفضل وجعفر، لكنّه كان يقدّم جعفر البرمكيعلى أخيه الفضل، لأنّ جعفر كان يُنادمه في مجالس الأنس واللهو ويشاركه مجلس شرابه. ويؤيّد ما ذكرناه ما نقله المسعودي في تاريخه حيث قال: (وانصرف جعفر البرمكيفي تلك الليلة من عند الرشيد وقد بقي في نفسه من الشراب فضلة لما قد عزم عليه )
ويقول المسعودي في وصفمجالس لهو هارون: وكان ( أبو صدقة ) يوقع بالقضيب ( أي كان موسيقياً )، مطبوعاًحاذقاً، طيّب العشرة مليح البادرة، فاقترح الرشيد ـ وقد عَمِل فيه النبيذُ ـ صوتاً(أي لحناً ) فأمر صاحب الستارة ابن جامع أن يُغنّيه، ففعل، فلم يطرب عليه.
أمّا ابن خلدون ـ الذي كانيعتبر الحاكم العباسيّ بمنزلة أمير المؤمنين ـ فقد جهد في الدفاع عن هارون، لكنّدفاع ابن خلدون لم يكن مع ما نقله المؤرّخون عن هارون، لأنّ ابن خلدون حين يُدافععن الحاكم فإنّما يدافع عنه بصفته أحد « أولي الأمر »، خاصّة فيما يتعلّقبالأمويّين والعبّاسيين. وتشير أغلب المصادر التاريخية أنّ محافل اللهو والشربوالمجون كانت ممّا اشتهر به هارون وحاشيته، يُضاف إلى ذلك النفوذ العظيم الذياكتسبته الجواري وتسلّطهن على عقل « الخليفة »! فقد كان لهارون جارية تُدعى ذاتالخال » كان لها منزلة عظيمة في قلبه، وقد أقسم لها يوماً أن يُعطيها كلّ ما شاءت. وكان هارون قد اشتراها بسبعين ألف درهم، ثمّ وهبها لأحد غلمانه، ثمّ ذهب لزيارتهامرّة وقد عصف به الشوق، فسألته أن يعيّن زوجها والياً على فارس لمدّة سبع سنين،فوافق على طلبها !
وكان هارون يُنادم في مجالسلهوه حتّى الذين اشتهروا من بني العبّاس بالتديّن، فكان يدعوهم إلى مجالسه ويُشركهمفي شرابه. يقول المؤرّخ ابن الطقطقي:
وكان أحد أقارب الخليفة شخصاً يدعىعبد الملك بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، وكان متديّناً وقوراً محتشماً،فطلب منه هارون أن يُنادمه ويُشاركه شرابه، ووهبه لأجل ذلك أموالاً وعطايا كثيرة          .
وعلى أيّ حال، كان عصرهارون عصر الحكايات الخياليّة لألف ليلة وليلة، وكان عصر الملذّات التي لا تنتهي،العصر الذي كانت فيه زبيدة زوج الخليفة تُقيم لِقِردها المفضّل مأدبة عامرة وتحوطهبأنواع الرعاية واللطف .
إنّه العصر الذي عُدّ فيهبلاط هارون مركزاً للغناء ومعاشرة الجواري. وقد ذكر المؤرّخون أنّ قصر هارون كانيضمّ أكثر من مائة جارية حاذقة في فنّ الغناء   ،وكان الولاة يتقرّبون إلى « الخليفة » بإرسال الهدايا الثمينة بلا حساب، وكانتهداياهم تتناسب مع ذوق الخليفة وتلبّي رغبات البلاط وتنسجم مع الجوّ السائد فيبغداد. يقول البيهقي ( وكان من بين الهدايا التي بعث بها عليّ بن عيسى من خراسانوأرسلها إلى هارون الرشيد: عشرة آلاف غلام تركيّ، وألف جارية تركيّة، ومائة غلامهندي ومائة جارية هنديّة))
وكان شاعر البلاط في بغدادفي هذا العصر أبو نؤاس، وكان قد اتُّهم بالزندقة لإنشاده أشعاراً شعوبيّة فسُجنمدّة، لكنّ هارون لم يقتنع بعقوبته بسبب أشعاره في الخمر والإلحاد أو بسبب تهمةٍ فيأفكاره الشعوبيّة، حتّى أنّ هارون جعله معلّماً للشعر لولده الأمين، وكان المأمونيُشير إلى صداقة أبي نؤاس مع الأمين.
وقد اشتهر أبو نؤاس بأشعاره في الخمروالغزل الشاذّ، ويندر أن يعثر المرء على قصيدة له تخلو من التبذّل والألفاظ الركيكةالماجنة. وكان أبو نؤاس يدور بحاشيته على الحانات وأديرة أطراف بغداد، فيُعاقرونالخمرة ويرتكبون فُنون المجون، ثمّ يصف أبو نؤاس في أشعاره سُكره وخمرتهومجونه .
ومن البديهيّ أن شعراءالبلاط يعكسون حالات وروحيّات بلاط الخلافة وأصحاب النفوذ في عصرهم، كما إنّ البذخالمسرف « للخليفة » وحاشيته مؤشّر على الثروات الطائلة التي تتصرّف فيها الخلافةالمزعومة، والفقر المدقع والافلاس الذي يُعاني منه الرعيّة، ويشهد على هذا قولالشاعر أبي العتاهية الذي صرّح ـ في الزمن الذي كان الخليفة ورجال حاشيته يتقلّبونفي اللذائذ والمتع وينعمون بالثروات الطائلة ـ بأنّه شهد المشكلات العظيمة الماديّةوالاقتصاديّة التي كانت الرعيّة تصطلي بلظاها. يقول أبو العتاهية:
مـَن مُبلـغٌ عنّي الإمـام
 
نـصـائـحاً مـُتـواليـهْ
إنّـي أرى الأسـعــار
 
أسـعار الرعـيّـة عاليـه
وأرى المـكـاسب نزرةً
 
وأرى الضـرورةَ فـاشيه
وأرى غـمـوم الـدهـر           رائـحـةً تــمـرّ وغـاديـه
وأرى الـيتامـى والأرا         مـل فـي الـبيوت الـخاليه
ومن المناسب أن نشير ـ في خاتمة هذا البحث ـ حول الثروات العظيمةللبلاط والولاة، والآثار السيّئة التي تركتها على المجتمع ـ إلى الثروات العظيمةالتي امتلكها هارون، والتي كان يُنفقها ويبدّدها على حاشيته وجواريه ومادحيه، والتيكان ولاته الظلمة يعملون على إعادتها إلى بيت المال من خلال جَبْي الضرائب منالأمّة، فقد نُقل أنّه خلّف بعد موته 900 ألف ألف درهم.  واقتفت الخيزران أم هارون ـ وكانت قد توفّيت سنة 173 هـ ـ أثر ولدها، وكانت غلّتها 160 ألف ألف درهم .
وفي زمن هارون مات محمّد بنسليمان والي البصرة، وكان هارون قد نقم عليه بدسيسة من أخيه جعفر، فقبض أموالهبالبصرة فكان مبلغها ـ كما نقل ابن خلدون ـستّين ألف ألف درهم.. سوى الضِّياعوالدُّور والمستغلاّ
 كما نقل المسعودي أنّ محمّد بنسليمان كان يغلّ كلّ يوم مائة ألف درهم، سوى الضِّياع والدور والمستغلاّت .
وأشار اليعقوبي في تاريخهإلى الطريق الذي اتّبعه الرشيد في كسب هذه الثروات العظيمة، فقال: وأخذ الرشيدالعمّال والبُناة والدَّهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلاّت والمقبّلين ـ وكانعليهم أموال مجتمعة ـ فولّى مطالبتهم عبدالله بن الهيثم بن سلم، فطلبهم بصنوفٍ منالعذاب .
ونقل البيهقي في تاريخه أنّهارون كان راضياً عن عليّ بن عيسى حاكم خراسان بسبب الهدايا والخدمات التي كانيقدّمها للبلاط، وأنّ هارون أجبر جميع أعداء عليّ بن عيسى على السكوت، ثمّ كافأهبأن ولاّه: حكومة خراسان، وما وراء النهر، والري، وجرجان، وطبرستان، وكرمان،واصفهان، وخوارزم، ونيمروز، وسيستان. وحسب تعبير البيهقي فقد عمّ الظُلم والجور تلكالبلاد.
ثمّ إنّ عليّ بن عيسى أرسل للرشيد هديّة لم يُرسلها أحد قبله، ولميُرسلها أحد بعده، فلمّا عُرضت هديّته على الرشيد بُهت وتحيّر وسُرّ سروراً كبيراً،ثمّ قال ليحيى البرمكي: أين كانت الهدايا التي أرسلها عليّ بن عيسى في عهد ولايةابنك الفضل ؟ فأجاب يحيى: إنّما كانت في ولاية الفضل في بيوت أصحاب                                                                                 ! ولم تُعجِب هارونَ إجابةُيحيى، ولعلّ أحد أسباب سقوط البرامكة أجوبتُهم الصريحة المُرّة في أمثال هذهالمواقف.
ولا شكّ في أنّ هذه السيرة من الحاكم العبّاسي وولاته وحاشيته قدتسبّبت في إثارة نقمة الناس عليه، وأدّت إلى نشوب الثورات والانتفاضات ضدّه، كماتسبّبت في الثورة العظيمة التي قام بها أهل خراسان على حاكمهم الظالم، وانتهتبمقتله، فأجبرت هارون على التوجّه بنفسه إلى خراسان لقمعها، ثمّ مات في طوس في سفرهذلك.
ولم تكن الأمور في قم ـ باعتبارها أحد مراكز التشيّع والميل إلى أهل البيتوللعلويّين ـ أفضل منها في خراسان، فقد ثار أهل قم على ظُلم الوالي، فقتلوا عاملهارون وامتنعوا عن دفع الضرائب خمس سنوات كاملة ,
انتشار فكر أصحابالحديث
امتاز العصر الأموي وبداية العصر العبّاسي بكونه عصرَ انتشارطريقة أصحاب الحديث، بينما امتاز عصر المأمون والمعتصم والواثق بكونه عصر المواجهةبين أنصار العقل والقول بالإرادة ـ أي المعتزلة ـ وبين أصحاب الحديث، وتجلّى في زمنالمتوكّل بانتشار مذهب الأشاعرة.
وقد عبّر بعض المؤلّفين عن أصحاب الحديثبالفقهاء، فكان اليعقوبي ـ على سبيل المثال ـ يورد في نهاية عصر كلّ حاكم عباسيّذِكر مَن كان في عصره من الفقهاء. وكان أغلب هؤلاء الفقهاء من المقرّبين إلىالخلفاء، وحسب تعبير ابن الطقطقي، فقد كان الفقهاء ما برحوا في عصر هارون محطّأنظاره ومورد إكرامه وإنعامه. وقد ذكرنا أنّ هارون أرسل إلى الحجّ على نفقته المئاتمن هؤلاء الفقهاء وأبنائهم.
ويقول ابن الطقطقي: إنّ العلماء والشعراء والفقهاءوالقرّاء والقضاة والكتّاب والندماء كانوا يجتمعون على باب الرشيد، ولم يسبق لهم أناجتمعوا على باب سواه، وكان الرشيد يغدق عليهم الصِّلات، ويُبالغ في الإغداقعليهم .
وكان أبو البختري بن وهبالقرشي أحد فقهاء عصر هارون، وكان من الذين استجابوا لطلب هارون ـ من أجل حطامالدنيا وزينتها ـ فاعتبروا الأمان الذي أعطاه هارون ليحيى بن عبدالله العلويّباطلاً، الأمان الذي يُلزم الإسلام مُعطيه بضرورة مراعاته مع المسلم والكافر علىحدّ سواء.. أمّا هذا الفقيه فقد اشترى مرضاة الحاكم الظالم بسخط الله عزّوجلّ،وتسبّب في سفك دم علويّ جليل من أهل البيت عليهم السّلام.
يقول أبو الفرجالاصفهاني: ( واستلب أبو البختري وهب بن وهب كتاب الأمان فقال: هذا باطل منتقض. قدشقّ ( يحيى ) عصا الطاعة وسَفَك الدم، فاقتُلْه ودمه في عُنقي )
وعُرف كثير من هؤلاءالفقهاء الذين اشتهروا بالزهد والتصوّف في عصرهم بأنّهم يستلمون أموالاً ورواتب منالبلاط، فخلّفوا هذه السيرة لمن جاء بعدهم. يقول ابن خَلِّكان في هذا الشأن: (( وكانيحيى يُعطي سفيان الثوري ألف درهم في كلّ سنة، فابتهل سفيان إلى ربّه يوماً فقال: اللهمّ إنّ يحيى كفاني مؤونة هذه الدنيا، فاكفني مؤونة الآخرة)) .
وقد اقترن عصر إمامةالأئمّة: محمّد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم عليهم السّلام، بانتشار طريقةأصحاب الحديث؛ ممّا تسبّب في اقحام الانحرافات العديدة في الثقافة العقائديةللمجتمع الإسلامي، ومن تلك الانحرافات القول بتجسيم الله سبحانه وتعالى. ولهذاالسبب انصرف هؤلاء الأئمّة الأبرار إلى مواجهة هذا الخطر الكبير، فقاموا بتهذيبوترويج الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، روايةً عن آبائهم الكرامعليهم السّلام الذين أقرّ جميع علماء الحديث ورواته بوثاقتهم وعدالتهم.
وعلىالرغم من أن هؤلاء الأئمّة لم يتصدَّوا لمواجهة الحكّام مباشرةً، ولم يسعوا إلىالوصول إلى دفّة الحكم، لكنّهم ـ مع ذلك ـ كانوا يشكّلون عبئاً ثقيلاً لم يستطعالحكّام تحمّله، وكانت سيرتهم وأقوالهم عليهم السّلام ممّا لا يطيق الحكّام رؤيتهولا سماعه، فلجأوا إلى إقصاء الأئمّة عن مركز الحديث ـ أي المدينة المنوّرة ـ إلىنقاط أخرى، أو إلى محاصرتهم وسجنهم واغتيالهم بالسمّ، ذلك أنّ انتشار أحاديث النبيّصلّى الله عليه وآله يَستتبع بقاء الدين وبيان القرآن وتفصيله، ويُغلق الباب أمامالحكّام المزيَّفين من أمثال المنصور وهارون في التلقّب بكونهم حُماة الدين ومروّجيالشريعة الإسلاميّة، والتسمّي بخلافة رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما يغلقالسبيل أمامهم في انتهاج سيرة لا تمتّ بصلة ـ في أيّ جانب من جوانبها ـ إلى سيرةالنبيّ صلّى الله عليه وآله، دون أن يُثير ذلك عليهم ضغائن المسلمين، ويتسبّب فيإثارة المخالفين لسيرتهم، أواتّفاقهم على ضرورة اسقاطهم.
عصر رواج الزهدوالتصوّف
روّج حكّام بني العبّاس، وبخاصّة المنصور والرشيد، للانعزالوالزهد، وشجّعوا الآخرين ـ بسيرتهم ـ على انتهاج هذا النوع من السلوك والتفكيروكانوا يتحمّلون كلام الزهّاد المرّ حينما كانوا يَعِظونهم وينصحونهم.
وشاهدنافي هذا المجال، المنصور العبّاسي يستمع إلى اعتراض عمرو بن عُبَيد وكلامه القاسيالعنيف، ثمّ يبكي بشدّة ويذرف الدموع سِخاناً، ثمّ يرمي خاتمه إلى عمرو ليقضيوأصحابه بما يشاؤون.
كما أورد الدِّينَوري تحمّل المنصور لوقاحة سفيان الثوريوسليمان الخَوّاص حين التقيا به في مِنى ولاماه بشدّة.
وكان هارون أيضاً صبوراًعلى إعراض الزهّاد الذين تركوا الدنيا لأهلها، والذين نظروا إلى العالَم كما تراهالمسيحيّة التي تقول: « دَع ما لقيصر لقيصر »، وكان يبكي إذا وعظه أحد منهم، وأعطىيوماً ألفي درهم إلى داود الطائي فردّها عليه، وأهدى إلى فُضَيل بن عياض بَدرةَ ذهبفأبى أن يأخذها منه، مع أنّ هارون كان قد ذهب لزيارته من العراق إلى الحجاز .
وليس من شكّ أنّ هذه السيرةوالتعامل من جانب الحاكم سيروّج نموَّ الزهد والتصوّف وانتشارّهما في المجتمعالمسلم .
وكان هناك في هذا العصرزهّاد قضوا سنوات متمادية في المقابر وفي المغارات منعزلين عن المجتمع، إذ كانواممّن يفرّون إلى الثغور من أجل حفظ دينهم من وساوس الشيطان، وصون أنفسهم من عَبَدةالدنيا، وممّن انتهجوا أسلوب رهبانيّة النصارى وتركوا الجهاد الذي أوصى به رسولالله صلّى الله عليه وآله، حيث قال: )) إنّما رهبانيّة أمتي الجهاد في سبيل الله((
وكان أمثال هؤلاء الزهّاد يتركون نساءهم وأطفالهم، ويُعرِضون عن تناولالطيّبات من الرزق، ويقنعون من اللباس بخُرَق بالية لا تستر لهم بدناً، ولا تَقيهمحرّاً ولا برداً، فكانوا ممّن هجروا سيرة الإسلام الصحيح، وتناسوا صرخات أبي ذرأمام قصر معاوية المَشِيد، وأراحوا حكّام الجور من أن يقلقوا من جانبهم، أو يخشوامخالفتهم.
 

20/10/1430 -  ميسان -  الكميت -  حي الزهراء / جامع الإمامين العسكريين
رجوع
الاوضاع الاجتماعية في عصر الامام الكاظم
مكتبة الإمام الحكيم العامة @ 2008 - 2024
مكتبة الإمام الحكيم العامة